الساعة البيولوجية ( عقارب تحرس الحياة )

في جسم كل إنسان ساعة بيولوجية تسمح له بأن يعيش بصحة جيدة, وانسجام تام مع بيئته, فيما إذا ضبط حياته مع عقارب هذه الساعة في النهار والليل, في الشتاء والصيف, وفي سائر فصول السنة, هذه الساعة تنظم أجسامنا الحيوية والبيولوجية بشكل دقيق ومتوازن.

بعض الحيوانات تواصل حياتها نهارا, وأخرى تفضل الليل, أزهار أوراقها تتفتح في النهار وتنطوي في المساء, أشجار تفقد أوراقها في الخريف, وتكتسي حلة جديدة في الربيع, فالطبيعة تعبّر عن الإيقاع, إن كان في النهار أو في الليل أو في أي فصل من فصول السنة.

والإنسان يعيش بفعل تناوب النهار والليل, ويكون أكثر فعالية ونشاطًا في النهار منه في الليل, وهناك زمن للإنسان ليحلم وليفكر, وزمن للعمل, وزمن للنوم, وزمن للحب, فالإيقاع هو صفة أساسية للمادة الحية. العلماء الآن أصبحوا يعرفون جيدًا إيقاعات جسم الإنسان وتغير وظائفه الفيزيولوجية عبر الزمن, فكل يوم وكل شهر وكل سنة: شهيتنا للطعام, نومنا, إفرازات هرموناتنا تزيد أو تنقص حسب إيقاعات بيولوجية داخل أجسامنا وتؤثر في سائر أمور حياتنا.

فمثلاً أغلبية الوفيات تحصل نحو الساعة السادسة صباحًا لأن المقاومة المناعية والكريات البيضاء المختصة بمناعة جسم الإنسان تكون في هذه الساعة مشتتة وضعيفة التأثير, وفي هذا الوقت بالذات يكون الإنسان عرضة للهجمات القلبية والدماغية بسبب ارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستويات عناصر التخثّر في الدم مما يمكن أن يؤدي إلى حدوث الجلطات القلبية أو السكتات الدماغية.

غالبية الولادات تحصل نحو الساعة الرابعة صباحًا, ليس لها علاقة بالقمر, بل بإفراز هرمون الأوكسيتوسين الذي يحرض تقلصات الرحم وإفراز هذا الهرمون يكون في أعلى مستوى له في آخر الليل. فالجسم يتعرف على الوقت بفضل ساعات متعددة ذات تركيز مشترك ومخبأة في أعضاء الجسم كالكليتين والكبد وغدة البنكرياس وفي الدماغ. وعلماء تاريخ الزمن البيولوجي اكتشفوا وجود مركزين في الدماغ مسئولين عن تنظيم هذه الساعة, وهما: النواة فوق التصالب البصري والغدة الصنوبرية, فهذه الغدة - مثلاً - تفرز في الدم هرمون الميلاتونين أثناء النوم ليلاً, ويتوقف إفرازه فجرًا, ودور هذا الهرمون أساسي وذو إيقاع متناغم مع الأيام والفصول, ويؤثر بشكل مباشر في نومنا وأجسامنا تتأثر بعناصر مختلفة وأهمها: حرارة الجسم - الضغط الشرياني - عناصر الدم, فالتغيرات في حرارة الجسم تكون بشكل دائم وعلى مدار اليوم, وهي أكثر انخفاضًا نحو الساعة الثالثة والرابعة صباحًا, وترتفع تدريجيًا لتبلغ حدّا أعلى, ومن ثم تبدأ بالهبوط نحو الساعة الثامنة مساء, والضغط الشرياني يختلف أيضا بين فترة وأخرى في الليل أو في النهار, ولهذا نجد الأطباء يسجلون ساعة قياس ضغط دم مرضاهم, أما عناصر الدم, فالكريات البيضاء يزداد تعدادها في المساء, والكريات الحمراء أكثر صباحًا.

ساعات في أعماقنا

لجسم الإنسان زمن من الحيوية والنشاط, وزمن للراحة ولأجل أن يكون الإنسان نشيطًا بالليل يتطلب منه ذلك بذل طاقة أكثر من النهار مما يجعل الإنسان مرهقًا في عمل الليل, ونحن نعيش جميعًا حسب إيقاعات الساعة البيولوجية أكثر أو أقل, وفي أعماقنا آلية متناغمة مع الساعة البيولوجية تتحكم بطريقة غذائنا ونومنا ونشاطنا الجنسي والجسدي والفكري والعلاجي.

الغذاء: الساعة البيولوجية تقودنا ببساطة إلى أن نختار حاجتنا الغذائية من أجل أن نحافظ على لياقتنا البدنية وعلى صحتنا.

صباحًا: يجب أن يحتوي فطورنا أكثر على السكريات لنكون أكثر نشاطًا في النهار, فالسكريات السريعة تتحول مباشرة إلى طاقة, والسكريات البطيئة تسمح لنا بأن نقاوم حتى الغداء, وأحيانًا نحن نستهلك هذه المخزونات من الطاقة بسرعة, وعلى أثر ذلك نشعر ببعض الوهن والتعب حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا, ويفضل في هذا الوقت بالذات تناول قطعة من الفاكهة أو عصير الفاكهة.
ظهرًا: الغداء يجب أن يكون وجبة أساسية تؤخذ نحو الساعة الثانية عشرة أو الواحدة بعد الظهر, إذ إنها تضيف إلى الجسم مزيدًا من الطاقة, وتجعلنا نقاوم حتى المساء, وأهم محتويات هذه الوجبة (لحوم - أسماك - خضار).
مساء: أجسامنا لا تستهلك سوى قليل من الحريرات, يجب إذن تلافي الأطعمة الغنية بالدسم والدهون, وتفضيل الخضار والفواكه, وأحيانًا بعض اللحوم البيضاء.

النوم: ساعتنا البيولوجية مبرمجة على إيقاع أربع وعشرين ساعة, وليس عن طريق الصدفة أننا ننام في المتوسط من ثماني إلى عشر ساعات في اليوم (بعض الأشخاص ينامون أكثر, وبعضهم أقل), وذلك بشكل متناغم مع اختلاف درجة حرارة الجسم والتي تنخفض ليلاً. وليس المهم اتباع ساعة معينة للخلود إلى النوم أو للاستيقاظ, لكن بكل بساطة, يجب أن نصغي إلى أجسامنا (اذهب إلى النوم عندما يكون عندك إحساس بالحاجة إلى النوم), ولكن من المفضل لصحة الإنسان نوم الليل, حيث إن قسمًا كبيرًا من النوم في النهار يجعل الإنسان معرضًا للتعب, وأحيانًا للاكتئاب.

النشاط الجنسي: تزداد الرغبة الجنسية عند المرأة في الربيع, وعند الرجل في الخريف, النشاط الجنسي عند الرجل والمرأة مبرمج حسب مرحلة زمنية مدتها اثنا عشر شهرًا, وتتأثر بالإفرازات الهرمونية, فعند الرجل هرمون التستوسترون يحث على إفراز الحيوانات المنوية, والزمن الأكثر نشاطًا عنده هو في منتصف الخريف مع ثلاث ذروات (الثامنة صباحًا - منتصف بعد الظهر - الثانية عشرة ليلاً), وعند المرأة آلية الإباضة تكون في اليوم الرابع عشر عند امرأة دورتها الطمثية 28 يومًا, ويترافق ذلك مع زيادة الرغبة الجنسية, مما يمهد لعملية تلقيح البويضات, وإفراز الهرمونات عند المرأة يكون في أعلى مستوى له في الربيع (مارس وأبريل).

النشاط الجسدي والأداء الفكري: يكون في الصباح الباكر بين التاسعة والحادية عشرة, والتيقّظ والذاكرة والتعلّم والطاقة الجسدية تكون في أوجها, وبين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ظهرًا حرارة الجسم تنخفض محدثة تعبًا بيولوجيًا طبيعيًا, ومن الساعة الرابعة عشرة إلى الساعة السادسة عشرة فترة تعب بيولوجي أيضًا, ومن الساعة السادسة عشرة والنصف إلى الساعة الثامنة عشرة مرحلة جيدة من أجل الأداء الجسدي والفكري. مساء من الساعة الثامنة عشرة إلى الساعة الثانية والعشرين حرارة الجسم ترتفع من جديد, وبالتالي عودة النشاط والطاقة, وليلاً من الساعة الثانية والعشرين إلى الساعة الثالثة والعشرين الشعور بتعب ومرحلة النوم والراحة تبدأ. إذن النشاط الجسدي والفكري هو أفضل عندما تكون حرارة الجسم مرتفعة, وبالعكس.

هذه الإيقاعات

إن معرفة البشر ببرامج الساعة الحيوية ينبغي أن تجد تطبيقًا لها عند التعامل مع الجسد, بأي إضافات خارجية ومنها الأدوية, فهي أيضًا تعمل حسب الساعة البيولوجية وبعض الأدوية المعروفة توصف في أوقات معينة, وفاعلية كل دواء تختلف حسب لحظة تناوله في النهار أم في الليل, في الشتاء أم في الصيف, وخلايا الجسم مبرمجة مع الزمن من أجل أن تعمل أكثر في بعض الساعات, وأقل في ساعات أخرى, وأجسامنا تعمل كالساعة مع حركات خاصة بها, وتأثير الدواء يتوافق مع بدء عمل الخلية واللحظة التي يصل إليها الدواء, وبذلك نستطيع أن نتجنب الأعراض الجانبية إلى الحد الأدنى, ومن سمية بعض الأدوية كأدوية السرطانات.

- أدوية الروماتيزم والأسبرين: إذا أعطيت مساء أعراض النزف تنخفض إلى النصف لأن الأسبرين ينطرح بشكل أبطأ صباحًا, وأسرع ليلاً, لهذا ينصح الأطباء بإعطائه مساء.

- أدوية ارتفاع ضغط الدم: يفضل إعطاؤها على شكل دواء مديد يعمل على مدى 24ساعة أو إعطاؤه مساء قبل النوم لأن ضغط الدم يرتفع بين الساعة السادسة والثامنة صباحًا.

- أدوية السرطان: بعض أدوية السرطان إذا أعطيت في الساعة السادسة صباحًا وبعضها الآخر في السادسة مساء تكون سمية الدواء أقل بكثير, وبذلك نستطيع أن نرفع من جرعة الدواء من 20 إلى 40% بشكل آمن, ونضاعف بذلك الفعالية المضادة للسرطان, وخاصة سرطان الكلية والرئة والثدي.

- المضادات الحيوية: لكل مضاد حيوي عمله الخاص به, وأخذه على معدة فارغة أو أثناء الطعام أو بعد الطعام مباشرة, وبعضها يؤخذ مع كمية كافية من الماء كالتتراسكلين والأموكسيسللين, وهذا بدوره يرتبط بالإيقاع الحيوي.

- أدوية الربو: بعضها تكون فعاليته أكبر عندما يعطى نحو الساعة السابعة أو الثامنة مساء مثل الثيوفللين, وكذلك مضادات الهيستامين (مضادات الحساسية), وفي حال استخدام الكورتيزون لمرضى الربو, فمن المفضل إعطاؤه مساء إذا كانت الهجمات الربوية تحصل في الليل.
أدوية التخدير الموضعي: تكون فعاليتها أكبر نحو الساعة الثالثة بعد الظهر (بحيث تكون الجرعة التخديرية مرتين إلى ثلاث مرات أقل), أما أدوية التخدير العام فهي الآن قيد الدراسة والتجربة عند الحيوانات.

- أدوية الصداع النصفي: المصاب بنوبات صداع نصفي في وقت معين من النهار, يجب إعطاؤه جرعات كبيرة وكافية من الأدوية المضادة للصداع قبل النوبة بست ساعات.

- الأدوية العصبية والنفسية: عند أغلب المرضى تكون الساعة البيولوجية معطلة, ففي حال الاكتئاب - مثلا - يفضل معالجته أولاً لإعادة عقارب الساعة البيولوجية إلى وضعها الطبيعي, حيث يفضل إعطاء أدوية الاكتئاب مساء, والمهدئات صباحًا.

- مدرات البول: فعاليتها تكون في أعلى مستوى قبل الساعة العاشرة صباحًا.

- علاجات مختلفة: تعطى قبل الطعام مباشرة مثل بعض أدوية ارتفاع ضغط الدم, موسعات الأوعية, مضادات حموضة المعدة, والمقويات (الفيتامينات).

باختصار, قدرة أجسامنا على طرح الترسبات السامة وتقوية دفاعاتنا المناعية ومقاومتها للالتهابات وتقوية أجسامنا. وأداؤنا الفكري يخضع لتغيرات مهمة خلال الـ24 ساعة. توجد إذن على مدار اليوم لحظات مناسبة للنشاط الجسدي والفكري, وأخرى للغذاء والراحة, ولحظات من أجل النوم, كما أن اضطرابات النوم وحدوث الاكتئاب وبعض مؤشرات ظهور الأمراض وبعض السرطانات تحصل نتيجة عدم تناغم حياتنا اليومية مع عقارب الساعة البيولوجية.

المصدر: مجلة العربي العدد 557 إبريل 2005